كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وثانيها: قال الضحاك: بالنطق والتمييز وتحقيق الكلام أن من عرف شيئًا، فأما أن يعجز عن تعريف غيره كونه عارفًا بذلك الشيء أو يقدر على هذا التعريف.
أما القسم الأول: فهو حال جملة الحيوانات سوى الإنسان، فإنه إذا حصل في باطنها ألم أو لذة فإنها تعجز عن تعريف غيرها تلك الأحوال تعريفًا تامًا وافيا.
وأما القسم الثاني: فهو الإنسان، فإنه يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه ووقف عليه وأحاط به فكونه قادرًا على هذا النوع من التعريف هو المراد بكونه ناطقًا، وبهذا البيان ظهر أن الإنسان الأخرس داخل في هذا الوصف، لأنه وإن عجز عن تعريف غيره ما في قلبه بطريق اللسان، فإنه يمكنه ذلك بطريق الإشارة وبطريقة الكتابة وغيرهما ولا يدخل فيه الببغاء، لأنه وإن قدر على تعريفات قليلة، فلا قدرة له على تعريف جميع الأحوال على سبيل الكمال والتمام.
وثالثها: قال عطاء: بامتداد القامة.
واعلم أن هذا الكلام غير تام لأن الأشجار أطور من قامة الإنسان بل ينبغي أن يشترط فيه شرط، وهو طول القامة مع استكمال القوة العقلية، والقوى الحسية والحركية.
ورابعها: قال بيان بحسن الصورة، والدليل عليه قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] لما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان قال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] وقال: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} [البقرة: 138] وإن شئت فتأمل عضوًا واحدًا من أعضاء الإنسان وهو العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق بياض الجبهة سواد الشعر، وليكن هذا المثال الواحد أنموذجًا لك في هذا الباب.
وخامسها: قال بعضهم من كرامات الآدمي أن آتاه الله الخط.
وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلم الذي يقدر الإنسان على استنباطه يكون قليلًا.
أما إذا استنبط الإنسان علمًا وأودعه في الكتاب، وجاء الإنسان الثاني واستعان بذلك الكتاب، وضم إليه من عند نفسه أشياء أخرى ثم لا يزالون يتعاقبون، ويضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علم المتقدمين كثرت العلوم وقويت الفضائل والمعارف وانتهت المباحث العقلية والمطالب الشرعية إلى أقصى الغايات وأكمل النهايات، ومعلوم أن هذا الباب لا يتأتى إلا بواسطة الخط والكتبة، ولهذه الفضيلة الكاملة قال تعالى: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذي عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3-5].
وسادسها: أن أجسام هذا العالم إما بسائط وإما مركبات، أما البسائط فهي الأرض والماء والهواء والنار.
والإنسان ينتفع بكل هذه الأربع، أما الأرض فهي لنا كالأم الحاضنة.
قال تعالى: {مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} [طه: 55] وقد سماها الله تعالى بأسماء بالنسبة إلينا، وهي الفراش والمهد، والمهاد، وأما الماء فانتفاعنا به في الشرب والزراعة والحراثة ظاهر، وأيضًا سخر البحر لنأكل منه لحمًا طريًا، ونستخرج منه حلية نلبسها ونرى الفلك مواخر فيه، وأما الهواء فهو مادة حياتنا، ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة، وأما النار فيها طبخ الأغذية والأشربة ونضجها، وهي قائمة مقام الشمس والقمر في الليالي المظلمة، وهي الدافعة لضرر البرد كما قال الشاعر:
ومن يرد في الشتاء فاكهة ** فإن نار الشتاء فاكهته

وأما المركبات فهي إما الآثار العلوية، وإما المعادن والنبات، وأما الحيوان والإنسان كالمستولي على هذه الأقسام والمنتفع بها والمستسخر لكل أقسامها فهذا العالم بأسره جار مجرى قرية معمورة أو خان معد وجميع منافعها ومصالحها مصروفة إلى الإنسان والإنسان فيه كالرئيس المخدوم، والملك المطاع وسائر الحيوانات بالنسبة إليه كالعبيد، وكل ذلك يدل على كونه مخصوصًا من عند الله بمزيد التكريم والتفضيل، والله أعلم.
وسابعها: أن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام إلى ما حصلت له القوة العقلية الحكمية ولم تحصل له القوة الشهوانية الطبيعية وهم الملائكة، وإلى ما يكون بالعكس وهم البهائم وإلى ما خلا عن القسمين وهو النبات والجمادات وإلى ما حصل النوعان فيه وهو الإنسان، ولا شك أن الإنسان لكونه مستجمعًا للقوة العقلية القدسية المحضة، وللقوى الشهوانية البهيمية والغضبية والسبعية يكون أفضل من البهيمية ومن السبعية، ولا شك أيضًا أنه أفضل من الأجسام الخالية عن القوتين مثل النبات والمعادن والجمادات، وإذا ثبت ذلك ظهر أن الله تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات.
بقي ههنا بحث في أن الملك أفضل أم البشر؟ والمعنى أن الجوهر البسيط الموصوف بالقوة العقلية القدسية المحضة أفضل أم البشر المستجمع لهاتين القوتين؟ وذلك بحث آخر.
وثامنها: الموجود إما أن يكون أزليًا وأبديًا معًا وهو الله سبحانه وتعالى، وإما أن يكون لا أزليًا ولا أبديًا وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان، وهذا أخس الأقسام، وإما أن يكون أزليًا لا أبديًا وهو الممتنع الوجود لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه، وإما أن لا يكون أزليًا ولكنه يكون أبديًا، وهو الإنسان والملك، ولا شك أن هذا القسم أشرف من القسم الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر مخلوقات الله تعالى.
وتاسعها: العالم العلوي أشرف من العالم السفلي، وروح الإنسان من جنس الأرواح العلوية والجواهر القدسية فليس في موجودات العالم السفلي شيء حصل فيه شيء من العالم العلوي إلا الإنسان فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفلي.
وعاشرها: أشرف الموجودات هو الله تعالى، وإذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من الله تعالى أتم، وجب أن يكون أشرف، لكن أقرب موجودات هذا العالم من الله هو الإنسان بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة الله تعالى ولسانه مشرف بذكر الله وجوارحه وأعضاؤه مكرمة بطاعة الله تعالى فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السفلي هو الإنسان، ولما ثبت أن الإنسان موجود ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ثبت أن كل ما حصل للإنسان من المراتب العالية والصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان الله تعالى وإنعامه فلهذا المعنى قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} ومن تمام كرامته على الله تعالى أنه تعالى لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه أكرم فقال: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم * الذي عَلَّمَّ بالقلم} [العلق:1: 4] ووصف نفسه بالتكريم عند تربيته للإنسان فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} ووصف نفسه بالكرم في آخر أحوال الإنسان فقال: {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} [الانفطار: 6] وهذا يدل على أنه لا نهاية لكرم الله تعالى ولفضله وإحسانه مع الإنسان، والله أعلم.
والوجه الحادي عشر:
قال بعضهم هذا التكريم معناه أنه تعالى خلق آدم بيده وخلق غيره بطريق كن فيكون.
ومن كان مخلوقًا بيد الله كانت العناية به أتم وأكمل، وكان أكرم وأكمل ولما جعلنا من أولاده وجب كون بني آدم أكرم وأكمل، والله أعلم.
النوع الثاني: من المدائح المذكورة في هذه الآية قوله: {وحملناهم في البر والبحر} قال ابن عباس في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وفي البحر على السفن، وهذا أيضًا من مؤكدات التكريم المذكور أولًا، لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها ويحمل عليها ويغزو ويقاتل ويذب عن نفسه، وكذلك تسخير الله تعالى المياه والسفن وغيرها ليركبها وينقل عليها ويتكسب بها مما يختص به ابن آدم، كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع والملك المطاع وكل ما سواه فهو رعيته وتبع له.
النوع الثالث: من المدائح قوله: {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} وذلك لأن الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، وكلا القسمين إنما يتغذى الإنسان منه بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامة والطبخ الكامل والنضج البالغ، وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان.
النوع الرابع: قوله: {وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} وههنا بحثان:
البحث الأول:
أنه قال في أول الآية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} وقال في آخرها: {وفضلناهم} ولابد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار، والأقرب أن يقال: إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل.
البحث الثاني:
أنه تعالى لم يقل: وفضلناهم على الكل بل قال: {وفضلناهم على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات الله تعالى شيء لا يكون الإنسان مفضلًا عليه، وكل من أثبت هذا القسم قال: إنه هو الملائكة.
فلزم القول بأن الإنسان ليس أفضل من الملائكة بل الملك أفضل من الإنسان، وهذا القول مذهب ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط.
واعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين:
البحث الأول:
أن الأنبياء عليهم السلام أفضل أم الملائكة؟ وقد سبق ذكر هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ} [البقرة: 34].
والبحث الثاني:
أن عوام الملائكة وعوام المؤمنين أيهما أفضل؟ منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة.
واحتجوا عليه بما روي عن زيد بن أسلم أنه قال: قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة، فقال: وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت له {كُنَّ} فكان.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.
هكذا أورده الواحدي في البسيط، وأما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية، وهو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب لأن تقرير الدليل أن يقال: إن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد، وذلك تمسك بدليل الخطاب، والله أعلم.
{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)}.
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا ذكر أحوال درجاته في الآخرة في هذه الآية.
وفيها مسائل:
المسألة الأولى:
قرئ {يدعو} بالياء والنون و{يدعى كل أناس} على البناء للمفعول وقرأ الحسن {يدعو كل أناس} قال الفراء وأهل العربية لا يعرفون وجهًا لهذه القراءة المنقولة عن الحسن ولعله قرأ {يدعى} بفتحة ممزوجة بالضم فظن الراوي أنه قرأ {يدعو}.
المسألة الثانية:
قوله: {يوم ندعو} نصب بإضمار اذكر ولا يجوز أن يقال العامل فيه قوله: {وفضلناهم} [الإسراء: 70] لأنه فعل ماضٍ ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد ونفضلهم بما نعطيهم من الكرامة والثواب.
المسألة الثالثة:
قوله: {بإمامهم} الإمام في اللغة كل من ائتم به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبي إمام أمته، والخليفة إمام رعيته، والقرآن إمام المسلمين وإمام القوم هو الذي يقتدي به في الصلاة وذكروا في تفسير الإمام ههنا أقوال، القول الأول: إمامهم نبيهم روي ذلك مرفوعًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون المعنى أنه ينادي يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بإيمانهم ثم ينادي يا أتباع فرعون يا أتباع نمروذ يا أتباع فلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر وعلى هذا القول فالباء في قوله: {بإمامهم} فيه وجهان.
الأول: أن يكون التقدير يدعو كل أناس بإمامهم تبعًا وشيعة لأمامهم كما تقول ادعوك باسمك.
والثاني: أن يتعلق بمحذوف وذلك المحذوف في موضع الحال كأنه قيل يدعو كل أناس مختلطين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده.
والقول الثاني: وهو قول الضحاك وابن زيد {بإمامهم} أي بكتابهم الذي أنزل عليهم وعلى هذا التقدير ينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل.
والقول الثالث: قال الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم وهو قول الربيع وأبي العالية والدليل على أن هذا الكتاب يسمى إمامًا قوله تعالى: {وَكُلَّ شىْء أحصيناه في إِمَامٍ مُّبِينٍ} [ياس: 12] فسمى الله تعالى هذا الكتاب إمامًا، وتقدير الباء على هذا القول بمعنى مع أي ندعو كل أناس ومعهم كتابهم كقولك ادفعه إليه برمته أي ومعه رمته.